الفتّوتة
تعريب د. محمد عيسى الأنصاري
رسوم رضون الرياحي
كما تعلمون أن هناك على وجه الأرض أناساً خيرين، وهناك سيئون بعض الشيء،
وهناك أيضاً أولئك الذين لا يخشون الله، ولا يخجلون من أشقائهم بني البشر:
ومع أمثال هؤلاء عاشت «الفتّوتة». أصبحت يتيمة في سن مبكرة، ثم آلت (تحولت)
حضانتها إلى هؤلاء الناس، الذين قاموا بإطعامها وأصرّوا على حرمانها من
رؤية دنيا الله، بينما أجبروها على العمل يومياً، أنهكوها، وهي تخدم،
وترتب، وتهتم بالجميع وتكون مسئولة عن كل شيء أمام الجميع.
وكان لزوجة أبيها ثلاث بنات. الكبرى تدعى أم عين والوسطى أم
عينين والصغرى أم ثلاث عيون، وكل ما كانت تعرفه هؤلاء البنات هو الجلوس على
البوابة والتحديق طويلاً عبر الشارع، بينما «الفتوتة» تعمل لهن، تخيط لهن،
وتحيك لهن وتنسج، ومطلقا، كلمة طيبة منهن لم تسمع. فهناك من يوخزها بصورة
مؤلمة ويدفعها بينما لا يوجد من يحييها أو يشجعها .
يحدث أن، تخرج «الفتّوتة» إلى الحقل، تحتضن بقرتها الرقطاء، ثم
تستلقي على رقبتها وتحدثها عن صعوبة العيش وسوء الحال: أيتها البقرة الأم!
لقد تعرضت للضرب، والسب والحرمان من الخبز وحتى البكاء قد منعت منه. أعطيت
قنطارين من مادة الخيش لكي أنهي بحلول يوم غد غزلها ونسجها وتبييضها ومن ثم
طيها ولفها.
فأجابتها البقرة: يا فتاتي الجميلة! ادخلي في إحدى أذنيّ واخرجي من الأذن الأخرى، سوف تنجز كل الأعمال التي أوكلت اليك.
وهكذا تحقق كل شيء. تخرج الفتاة الجميلة من أذن البقرة وكل شيء جاهز: الغزل، النسج، والتبييض، والطي واللف.
تحمل الفتوتة كل هذا إلى زوجة أبيها التي تنظر اليها نظرة قاسية،
ثم تخبئ ذلك في الصندوق ومن ثم تطلب منها مزيداً من العمل.
تذهب الفتوتة مرة أخرى إلى البقرة، تدخل في إحدى أذنيها، تخرج من
الأخرى، وبعد ذلك تحمل ما تم إنجازه من عمل إلى زوجة أبيها.
تعجبت العجوز فنادت ابنتها الكبرى أم عين:
- بنيّتي الحلوة، ابنتي البارة، انظري من هذا الذي يساعد اليتيمة: الغزل والحياكة، والطي واللف؟
ذهبت أم عين برفقة اليتيمة «الفتوتة» إلى الغابة وصاحبتها إلى
الحقل، ولكنها نسيت أوامر أمها، أصابتها دوخة من اللعب تحت أشعة الشمس
الحارة، فاستلقت على العشب بينما الفتوتة تكرر وتعيد:
- نامي يا عيني، نامي عيني!
وغفت أم عين في سبات عميق، في حين أتمت البقرة النسج، والتبييض.
وحيث إن زوجة الأب لم تصل إلى معرفة سر الفتوتة، فأرسلت ابنتها
الوسطى أم عينين، وهي أيضا مثل أختها الأولى، أصابتها دوخة من اللعب تحت
أشعة الشمس الحارة، فاستلقت على العشب ونسيت كذلك وصية أمها فأغلقت عينيها
فيما الفتوتة تهدهدها:
- نامي يا عيني، نامي وانت ياالثانية!
وفي هذه الأثناء أتمت البقرة الغزل والحياكة، والطي واللف فيما بقيت أم عينين نائمة.
غضبت زوجة الأب العجوز غضبا شديدا، وفي اليوم الثالث على التوالي
أرسلت ابنتها الصغرى أم ثلاث عيون، فيما طلبت من الفتوتة اليتيمة إنجاز
المزيد من الطلبات. وأم ثلاث عيون مثلها مثل شقيقتيها الأكبر، قفزت ولعبت
ومن ثم انبطحت فوق الحشيش فبادرتها الفتوتة بالغناء:
ونسيت المسكينة ذكر العين الثالثة، فغفت العينان ونامتا فيما ظلت
العين الثالثة تشاهد وترى كل شيء بما فيها كيف أن الفتوتة دخلت في أذن
البقرة ومن الأخرى خرجت وكيف جمعت منسوج الخيش الجاهز. وكل ما شاهدته أم
ثلاث عيون قامت بنقله لوالدتها، ففرحت العجوز فرحاً شديداً، وفي اليوم
التالي هرعت إلى زوجها قائلة:
- اذبح البقرة الرقطاء يا عجوز!
العجوز حاول الاعتذار بطريقة أو أخرى:
- ما بالك، زوجتي، هل أنت بكامل قواك العقلية؟ البقرة صغيرة في السن، وصحتها جيدة!
- اذبحها.. وخلاص.
وبدأ الأب في شحذ سكينه ...
جرت الفتوتة مسرعة إلى البقرة وأخبرتها قائلة:
- أيتها البقرة الأم! إنهم يريدون ذبحك.
- وأنت يا فتاتي الجميلة، لا تأكلي من لحمي، بل اجمعي عظامي وفي
شالك لفّيها وفي اليستان اغرسيها ولا تنسي كل صباح بالماء أن تسقيها.
عملت الفتوتة كل ما أوصتها به البقرة : جاعت وجاعت، ولكنها لم
تذق ولم يدخل شيء من اللحم في فمها، بل كانت كل يوم تعنى بالعظام وبالماء
تسقيها، فنمت منها شجرة تفاح رائعة، سبحان الله ربي! التفاح يتدلى منها
جاهز للقطف، أوراقها ذهبية لها رنين، واغصانها فضية تتراقص مع الهواء
وتميل، يتوقف كل من يمر بجوارها، ويمعن (يدقق) النظر بها طويلا من يطوف
بقربها.
حدث ذات مرة والبنات يلعبن في البستان، أن مر مرتحلا بالحقل شاب وسيم وغني ونبيل فرأى التفاح وسأل الفتيات:
- أيتها الفتيات الجميلات! من ستأتيني منكن بتفاحة فستصبح عروسي المختارة؟
وهرعت الشقيقات الثلاث جرياً واحدة تلو الأخرى إلى شجرة التفاح.
فلقد كان التفاح معلقاً على ارتفاع منخفض بين الأيادي سهل الوصول، ثم انتفض
فجأة ليرتفع عالياً جداً، أعلى بكثير من أن يطال.
ولقد حاولت الشقيقات جاهدات إسقاط بعضه فانهالت الأوراق ذرات
تعمي العيون، وحاولن كسر الغصون وخلعها فتفلت ربطات ضفائرهن وتفرقت، وكيفما
حاولن وتحركن لم ينجحن بل جرحت أيديهن، ولم يتمكن من الوصول.
وما إن اقتربت «الفنوتة» من الشجرة حتى مالت الأغصان اليها وهبط التفاح بين يديها.
وهكذا تزوج الشاب النبيل من «الفنوتة» وعاشا في سبات ونبات وسعادة لم يعرفا بعدها حزناً ولا سوءاً أبدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق